الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة باليه "بحيرة البجع" على مسرح قرطاج الدولي: حينما يتحوّل جسد راقص الباليه إلى نوتة موسيقية تعزف ألحانا تحاكي أبدع الروايات الأسطورية

نشر في  14 جويلية 2019  (14:54)

 4 فصول  فنية حالمة لرواية أسطورية بديعة عُرضت في قالب موسيقي خالد لحنّه واحد من أعظم الموسيقيين في العالم وهو العبقري الروسي تشايكوفسكي، وجسّدتها فرقة باليه سان بترسبورغ  القادم من روسيا لأّول مرّة على مسرح قرطاج الدولي في افتتاحه يوم الخميس الماضي 11 جويلية 2019 والذي حضره وزير الشؤون الثقافية محمد زين العابدين وعدد من الشخصيات المعروفة والى جانب جمهور غفير توافد من أجل متعة لقاء باليه سان بترسبورغ.

 حركات كيروغرافية على مستوى عال من الاحترافية نزعت الواقع فينا وألبستنا ثوب الخيال لنسافر عبره إلى عالم الأحلام الأسطوري الذي يحاكي رواية "بحيرة البجع" التي علّ الكثير منا شاهدها "سمعا ورؤية" في طفولته فتمكنت من أن ترسّخ بصمتها في شرايين أفكارنا وصمامات ذكرياتنا من فرط شاعريتها ورمزية معانيها.

 

وبموسيقى مسجّلة لسيمفونية بحيرة البجع للمبدع تشايكوفسكي وبملابس حاكت الفلكلور الروسي عُطّرت بألوان الفرح والاحتفال، روت أجساد راقصي باليه سان بترسبورغ عبر تعبيرات فنية راقصة الفصل الأوّل من أسطورة بحيرة البجع أين يصطف حشد من الفتيات والفتيان ليهنئوا أميرهم سيغريفد ببلوغه سن الرشد فتهتز الأجساد عبر ثنائيات راقصة مصوّرة ما شاع في المكان من مرح ورقص وشرب للخمر.

 وهنا تدخل الملكة الحاكمة والدة سيغفريد -وهي بملابس حاكت حدّة باطنها - للوم ابنها بسبب مجونه مانحة إياه  قوسا ونشّابا وآمرة إيّاه بوجوب اختيار زوجة أثناء حفلة الرقص التالية بالقصر وهنا يتوقف الرقص مؤقتا ثم يعود فيستمر بعد انصرافها حيث اشتمل على رقصة باليه ثلاثية تلتها رقصات فردية طبعت نشوة المتعة داخل نفوس الجماهير الحاضرة.

 

وفي ديكور ضوئي خافت عكس الظلمة والعتمة تحويلا للوجهة التمثيلية وتوقيتها وعبر تتابع حركي جماعي إبداعي لراقصات تجمّلن بالأبيض وبتيجان وضعت على رؤوسهنّ وفي تعبيرة فنية وتشكيلة جماعية -عكس الفصل الأول الذي اعتمد في الأغلب على الرقص الثنائي- بدأ تمثيل الفصل الثاني من الأسطورة والذي يكتشف فيه الأمير خلال توجهه إلى إحدى البحيرات سرّ اللعنة التي حلّت على الأميرة أوديت من قبل ساحر شرير حوّلها إلى بجعة بيضاء تعود لطبيعتها البشرية إلاّ مع منتصف كل ليلة فيهيم بها الأمير حبّا وعشقا لجمالها ورقّتها ويدعوها إلى الحفل الراقص الذي سينتقي فيه عروسه في إشارة لها بعد أن اختارها قلبه.

وتتلاتى أحداث الرواية الاسطورية في حبكة درامة محكمة فتأخذنا نحو الفصل الثالث الذي عكسه ديكور بسيط معد للحفل المشهود، حيث تشاهد الملكة وابنها الأمير وهما متوجين يحف بهما أفراد الحاشية والحراس ويصل الضيوف وبعض المدعوات ليختار من بينهن الأمير زوجته المستقبلية وسرعان ما يحلّ زائر جديد يتضح أنه الساحر "روتبارت" وقد ارتدى ثوبا على شكل البجع الأسود ومعه أبنته أوديل وهي ترتدي السواد نفسا وثيابا والتي حوّلها والدها إلى شبيهة أوديت التي حتّى يُخدع سيجفريد بالشبه فيتودد إليها رقصا ضنا منه أنها حبيبته وهنا ينقض العهد الذي أعطاه لها. وفي تعبيرة فنية حزينة نشاهد أوديت تدخل الحفل الراقص محذّرة الأمير الذي أدرك الحيلة التي وقع فيها فخرج مسرعا للقائها.

 

ومن خلال منظر شبيه بالفصل الثاني، تعود الفتيات البجعات في الفصل الرابع للرقص منتظرة عودة أوديت التي ذهبت إلى القصر لتدخل بينهم يائسة بعد نقض العهد من قبل الأمير سيغفريد الذي أقبل مسرعا إليها لطلب الغفران  شارحا لها كيف تم خداعه ويرقصان معا لينتصر في ختام الأسطورة الحب على الشر ويقهر السحر وتفكّ لعنته في هذا الإنتاج الاستثنائي الذي يعكس أسلوباً متفرّداً يظهر الطابع الدرامي الرومانسي المهيب..

لوحات فنية جماعية راقية زادتها المعزوفة السيمفونية سحرا وتألقا حتّى خلنا أنّ أجساد راقصي الباليه قد تحوّلت إلى نوتات موسيقية يعزفونها بأنفسهم من فرط التماهي والانسجام معها دون أن ننسى سحر اللوحة الفنية الراقصة على إيقاع الفلامينكو.

ورغم الرطوبة العالية والأرضية المبتلة على ركح المسرح خاصة في الفصلين الثالث والرابع وهو ما أدى إلى سقوط راقصة وراقص أثناء أدائهما، ورغم عدم حضور السيمفونية العازفة لأسباب مادية بالأساس إلاّ أنّ الجمهور الحاضر -رغم خروج البعض منه ربما لطول العرض الذي امتد إلى الساعتين والنصف- انتشى ونهل مستمتعا من نهر فن راق كان كافيا لمسح غبار الحياة اليومية عن روحنا مثلما قال الرسام العالمي بابلو بيكاسو.

وتعتبر «بحيرة البجع» أعظم باليه على مرّ العصور، وأحد أهم إنجازات المدرسة الكلاسيكية في القرن التاسع عشر، ومن أكثر الباليهات المحبوبة، والرائجة، ولم تكن تبلغ هذه المنزلة المرموقة في التاريخ الموسيقي العالمي لولا تضافر عدّة عوامل ساهمت في خلودها واحتلالها المكانة الرفيعة التي هي عليها اليوم في باليهات العالم، ومن أبرزها: الموسيقى المميزة التي ألّفها الموسيقار الروسي تشايكوفسكي سنة 1887 وعرضت على مسرح البولشوي بموسكو في مارس 1887، فضلا عن الحبكة الدراميّة العالية، والرقصات المبدعة والأزياء المبتكرة لتجعل منها الأنوثة في أرقى حالاتها.

وجدير بالذكر أنّ تشايكوفسكي الذي ألّف «بحيرة البجع» عام 1887 ، ألّف كذلك من الأعمال الخالدة التي أضافت كثيراً للتراث الموسيقي العالمي، ووضع موسيقى العديد من عروض الباليه، لعلّ أشهرها «الجمال النائم»، و«كسّارة البندق»، و «يوجيني أنيجين» و «ملك العناكب».

 

منارة تليجاني